سورة التكوير - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التكوير)


        


روى أبو عبد الله الحاكم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ قوله تعالى: {إذا الشمس كورت}». وفي قوله تعالى: {كُوِّرَتْ} أربعة أقوال.
أحدها: أظلمت، رواه الوالبي عن ابن عباس، وكذلك قال الفراء: ذهب ضوؤها، وهذا قول قتادة، ومقاتل.
والثاني: ذَهَبَتْ، رواه عطية عن ابن عباس، وكذلك قال مجاهد: اضمحلَّتْ.
والثالث: غُوِّرَتْ، روي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وابن الأنباري، وهذا من قول الناس بالفارسية: كُورْبكرد. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: هو بالفارسية كورُبورْ.
والرابع: أنها تُكَوَّرُ مثل تكوير العمامة، فتلفُّ وتمحى، قاله أبو عبيد.
قال الزجاج: ومعنى {كُوِّرت} جمع ضوؤها، ولُفَّتْ كما تلف العمامة. ويقال: كَوَّرْتُ العمامة على رأسي أُكوِّرُها: إذا لَفَفْتَها. قال المفسرون: تُجمع الشمس بعضُها إلى بعض، ثم تُلَفُّ ويرمى بها في البحر. وقيل: في النار. وقيل تعاد إلى ما خلقت منه.
قوله تعالى: {وإذا النجوم انكدرَتْ} أي: تناثرت، وتهافتت. يقال انكدر الطائر في الهواء: إذا انقضَّ {وإذا الجبال سُيِّرت} عن وجه الأرض، فاستوت مع الأرض {وإذا العشار عُطِّلَتْ} قال المفسرون وأهل اللغة: العشار: النوق الحوامل، وهي التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر فقيل لها: العشار لذلك، وذلك الوقت أَحْسَنُ زَمَانِ حَمْلِها، وهي تضع إذا وَضَعَتْ لتمامٍ في سنة، فهي أنفس ما للعرب عندهم، فلا يعطلونها إلا لإتيان ما يَشْغَلهم عنها، وإنما خوطبت العرب بأمر العشار، لأن أكثر عيشهم ومالهم من الإبل. ومعنى {عُطِّلت} سُيِّبَتْ وأُهْمِلَتْ، لإشتغالهم عنها بأهوال القيامة.
قوله تعالى: {وإذا الوحوش} يعني: دوابَّ البحر {حشرت} وفيه قولان:
أحدهما: ماتت، قاله ابن عباس.
والثاني: جمعت إلى القيامة، قاله السدي. وقد زدنا هذا شرحاً في [الأنعام: 111].
قوله تعالى: {وإذا البِحار سُجِّرت} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو {سُجِرَتُ} بتخفيف الجيم، وقرأ الباقون بتشديدها.
وفي المعنى ثلاثة أقوال:
أحدها: أُوقِدَتْ فاشتعلت ناراً، قاله علي وابن عباس.
والثاني: يبست، قاله الحسن.
والثالث: ملئت بأن صارت بحراً واحداً، وكثر ماؤها، قاله ابن السائب، والفراء، وابن قتيبة.
قوله تعالى: {وإذا النُّفوس زُوِّجَتْ} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: قرنت بأشكالها، قاله عمر رضي الله عنه. الصالح مع الصالح في الجنة، والفاجر مع الفاجر في النار، وهذا قول الحسن، وقتادة.
والثاني: رُدَّت الأرواح إلى الأجساد، فَزُوِّجَت بها، قاله الشعبي. وعن عكرمة كالقولين.
والثالث: زُوِّجت أنفس المؤمنين بالحور العين، وأنفس الكافرين بالشياطين، قاله عطاء، ومقاتل.
قوله تعالى: {وإذا الموؤودة سئلت} قال اللغويون: الموؤودة: البنت تُدْفَن وهي حَيَّةٌ، وكان هذا من فعل الجاهلية.
يقال: وَأَدَ وَلَدَهُ، أي: دفنه حياً. قال الفرزدق:
وَمِنَّا الَّذِي مَنَعَ الوَائِدَا *** تِ فَأَحْيَا الوَئِيدَ وَلَمْ يُوأَدِ
يعني: صعصعة بن صوحان، وهو جَدّ الفرزدق. قال الزجاج: ومعنى سؤالها: تبكيت قاتليها في القيامة، لأن جوابها: قتلت بغير ذنب. ومثل هذا التبكيت قوله تعالى: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين؟!} [المائدة: 116]. وقرأ علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، وهارون عن أبي عمرو {سَأَلَتْ} بفتح السين، وألف بعدها {بأيِّ ذنب قُتِلَتُ} بإسكان اللام، وضم التاءَ الأخيرة. وسؤالها هذا أيضاً تبكيت لقاتليها. قال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت، فكان أوان ولادها حفرت حفيرة، فتمخَّضت على رأس الحفيرة، فإن ولدت جارية رَمَتْ بها في الحفيرة، وإن ولدت غلاماً حبسته.
قوله تعالى: {وإذا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} قرأ نافع، وعاصم، وأبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب {نُشِرَتْ} بالتخفيف، والباقون بالتشديد. والمراد بالصحف: صحائف أعمال بني آدم تنشر للحساب {وإذا السماء كشطت} قال الفراء: نُزِعَتْ، فطُوِيَتْ. وفي قراءة عبد الله {قُشِطَتْ} بالقاف، وهكذا تقوله قيس، وتميم، وأسد، بالقاف. وأما قريش، فتقوله بالكاف، والمعنى واحد.
والعرب تقول: القافور، والكافور، والقسط، والكسط. وإذا تقارب الحرفان في المخرج تعاقبا في اللغات، كما يقال: حَدَثٌ، وَحدَتٌ. قال ابن قتيبة: كُشِطَتْ كما يُكْشَطُ الغِطَاء عن الشيء، فطُوِيَتْ. وقال الزجاج: قلعت كما يقلع السقف. و{سُعِرت} أُوقدت. وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم {سُعِّرت} مشددة. قال الزجاج: المعنى واحد. إلا أن معنى المشدد: أُوقدت مرة بعد مرة. و{أُزْلِفَتْ} قُرِّبَتْ من المتقين. وجواب هذه الأشياء {علمت نفس ما أحضرت} أي: إذا كانت هذا الأشياء عَلِمَتْ في ذلك الوقت كلُّ نفس ما أحضرت من عمل، فأثيبتْ على قدر عملها. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال في قوله تعالى: {علمت نفس ما أحضرت}: لهذا جرى الحديث. وقال ابن عباس: من أول السورة إلى هاهنا اثنتا عشرة خصلة، ستة في الدنيا، وستة في الآخرة.


قوله تعالى: {فلا أقسم} لا زائدة، والمعنى: أقسم {بالخُنَّس} وفيها خمسة أقوال.
أحدها: أنها خمسة أنجم تَخْنُس بالنهار فلا تُرى، وهي زُحَل، وعُطَارد، والمشتري، والمرِّيخ، والزُّهرة، قاله علي، وبه قال مقاتل، وابن قتيبة. وقيل: اسم المشتري: البرجس. واسم المريخ: بهرام.
والثاني: أنها النجوم، قاله الحسن وقتادة على الإطلاق، وبه قال أبو عبيدة.
والثالث: أنها بقر الوحش، قاله ابن مسعود.
والرابع: الظباء، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير.
والخامس: الملائكة، حكاه الماوردي. والأكثرون على أنها النجوم. قال ابن قتيبة: وإنما سماها خُنَّساً، لأنها تسير في البروج والمنازل، كسير الشمس والقمر، ثم تَخْنُس، أي: ترجع، بينا يرى أحدها في آخر البروج كَرَّ راجعاً إلى أوله، وسماها كُنَّساً، لأنها تكنس، أي: تسير كما تكنس الظباء، وقال الزجاج: تخنس، أي: تغيب، وكذلك تكنس، أي: تغيب في المواضع التي تغيب فيها. وإذا كان المراد الظباء فهو يدخل الكناس، وهو الغصن من أغصان الشجر. ووقف يعقوب على {الجواري} بالياء.
قوله تعالى: {والليل إذا عسعس} فيه قولان:
أحدهما: ولَّى، قاله ابن عباس، وابن زيد، والفراء.
والثاني: أقبل، قاله ابن جبير، وقتادة. قال الزجاج: يقال: عسعس الليل: إذا أقبل. وعسعس: إذا أدبر. واستدل من قال: إن المراد: إدباره بقوله تعالى {والصبح إذا تَنَفَّس} وأنشد أبو عبيدة لعلقمة بن قرط:
حتى إذا الصُّبْحُ لها تَنَفَّسا *** وإنجاب عنها لَيْلُها وعَسْعَسَا
وفي قوله تعالى {تَنَفَّس} قولان:
أحدهما: أنه طلوع الفجر، قاله علي وقتادة.
والثاني: طلوع الشمس، قاله الضحاك. قال الزجاج: معناه: إذا امتد حتى يصير نهاراً بَيِّناً. وجواب القسم في قوله: {فلا أقسم بالخُنَّس} وما بعده قوله: {إنه لقول رسول كريم} يعني: أن القرآن نزل به جبريل. وقد بيَّنَّا هذا في [الحاقة: 40]. ثم وصف جبريل بقوله تعالى: {ذي قوة} وهو كقوله تعالى: {ذو مرة} وقد شرحناه في [النجم آية: 6] {ذي قوة عند ذي العرش مكين} يعني: في المنزلة {مُطَاع ثَمَّ أمين} أي: في السموات تطيعه الملائكة. فَمِنْ طَاعَةِ الملائكة له: أنه أَمَرَ خازن الجنة ليلة المعراج حتى فتحها لمحمد صلى الله عليه وسلم فدخلها ورأى ما فيها، وأمر خازن جهنم ففتَح له عنها حتى نظر إليها. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وابن مسعود، وأبو حيوة، {ثُمَّ} بضم الثاء. ومعنى {أَمين} على وحي الله ورسالاته. قال أبو صالح: أمين على أن يدخل سبعين سرادقاً من نور بغير إذن.
قوله تعالى: {وما صاحبكم بمجنون} يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، والخطاب لأهل مكة. قال الزجاج: وهذا أيضاً من جواب القسم، وذلك أنه أقسم أن القرآن نزل به جبريل، وأن محمداً ليس بمجنون كما يقول أهل مكة.
قوله تعالى: {ولقد رآه بالأفق المبين} قال المفسرون: رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته بالأفق، وقد ذكرنا هذا في سورة [النجم: 7].
قوله تعالى: {وما هو} يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم {على الغيب} أي: على خبر السماء الغائب عن أهل الأرض {بضنين} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ورويس، {بظنين} بالظاء، وقرأ الباقون بالضاد. قال ابن قتيبة: من قرأ بالظاء، فالمعنى: ما هو بمُتَّهم على ما يخبر به عن الله، ومن قرأ بالضاد، فالمعنى: ليس ببخيل عليكم بعلم ما غابَ عنكم مما ينفعكم. وقال غيره: ما يكتمه كما يكتم الكاهن ليأخذ الأجر عليه.
قوله تعالى: {وما هو} يعني: القرآن {بقول شيطان رجيم} قال مقاتل: وذلك أن كفار مكة قالوا: إنما يجيء به الشيطان، فيلقيه على لسان محمد.
قوله تعالى: {فأين تذهبون} قال الزجاج: معناه: فأيَّ طريق تسلكون أَبْيَنَ من هذه الطريقة التي قد بَيَّنَتُ لكم؟ {إن هو} أي: ما هو، يعني: القرآن {إلا ذكر للعالمين} أي: موعظة للخلق أجمعين {لمن شاء منكم أن يستقيم} على الحق والإيمان. والمعنى: أن القرآن إنما يتعظ به من استقام على الحق. وقد بيَّنَّا سبيل الإستقامة، فمن شاء أخذ في تلك السبيل. ثم أعلمهم أن المشيئة في التوفيق إليه بما بعد هذا، وقد بَيَّنَّا هذا في سورة [الإنسان: 30] قال أبو هريرة: لما نزلت {لمن شاء منكم أن يستقيم} قالوا: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فنزل قوله تعالى: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين} وقيل: القائل لذلك أبو جهل. وقرأ أبو بكر الصديق، وأبو المتوكل، وأبو عمران: {وما يشاؤون} بالياء.
فصل:
وقد زعم بعض ناقلي التفسير أن قوله تعالى {لمن شاء منكم أن يستقيم} وقوله تعالى في [عبس: 12] {فمن شاء ذكره} وقوله تعالى في سورة [الإنسان: 29] وفي سورة [المزمل: 18] {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} كله منسوخ بقوله تعالى {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} ولا أرى هذا القول صحيحاً، لأنه لو جاز وقوع مشيئتهم مع عدم مشيئته توجَّه النسخ. فأما إذ أخبر أن مشيئتهم لا تقع إلا بعد مشيئته، فليس للنسخ وجه.